وما يدريك لعله يزكى
( نحو ترشيد التربية الإنتقائية فى مجال الدعوة)
كتبه / أبو بكر القاضي
تقوم كثير من المدارس التربوية فى حقل الدعوة إلى الله على أساس مذهب التربية الإنتقائية وهى تعنى البحث عن الطاقات المحددة والمواهب المميزة والتركيز عليها لإنتاج كوادر صلبة تقوم عليها الدعوة فى كل مكان وهذا لاشك فيه درب مسلوك وأول من سلكه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النظر الثاقب فى تربية أصحابه رضوان الله عليهم وإبراز طاقاتهم ومواهبهم المتميزة لخدمة هذا الدين وإخراج قادة يقودون العالم كله بره وبحره قاصيه ودانيه إلى الله تبارك وتعالى ....
ولكن فى خضم ذلك التركيز والإنتقاء للأفراد قد تقصر النظرات مع متطلبات المراحل المتنوعة فى الدعوات على طاقات معينة أمثال الطاقات التى تهدف للعمل العلمى والتربوى فقط ويتم تهميش مثلا الجانب الحركى والإجتماعى والسياسى والدعوى على الناحية الأخرى أو العكس .. بالعكس .. وتتفاقم المشكلة حين يتم تحقير كل ما لا يخدم تلك الأهداف قصيرة النظر ويتم تهميشها حتى ولو كانت معروفا عرفة الشرع وجوبا عينيا أو كفائيا أو ندبا أو إباحة حتى !!
فى خضم الانتقاء والاختيار على حسب متطلبات لا أقول مسجد ولا منطقة بل حتى متطلبات مدينة بأسرها يظلم الكثيرون أرباب طاقات متفاوتة نعم .. ولكن لا تخلو من خير وحب للخير .. قد لا يستطيع أن يخطب .. قد لا يستطيع أن يغوص فى أعماق الكتب ليأتي بفرائد الفوائد و عجائب الترجيحات فى المسائل العسيرة..
قد لا يستطيع أن يحسن صوته بالقرآن .. وإن كان يحفظه عن ظهر قلب أو حتى لا يحفظه ولكنه حين يتلى عليه القرآن يبكى من خشية الله.. لكنه يستطيع أن ينفق فى سبيل الله القليل أو الكثير لبناء مساجد وإعانة طلاب العلم والخطباء ...
قد لا يستطيع أن يكون لغويا بارعا .. ولكنه يجيد لغة القلوب فى دعوتها الى الله تبارك وتعالى ..
قد يستطيع أن يؤذن .. أن يطهر بيت الله .. أن يسعى على اليتامى والأرامل قد يستطيع إلخ .. ما يدخل تحت الحكمة النبوية الأصيلة ] لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلق أخال بوجه طلق[
لب المشكلة فى الحقيقة أننا لا نفهم قضية تفاوت القدرات والطاقات ولذلك وبشعور أو لا شعور نهمش بعضها عن بعض ونفضل بدون وجه للمفاضلة بينهما فينتج الإهمال والإعراض الذى قد لا ينفعنا ولا ينفع المتربى فضلا أن يضره ويفتنه ويجعله يتساقط مع المتساقطين ..!!
فى ذلك عاتب الرب تبارك وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يدعو كبراء قريش وهو يريد عزة ومصلحة هذا الدين فى وقت الإستضعاف .. جاءه فى تلك اللحظة الذى يعتصر فيها قلبه صلى الله عليه وسلم من صد هؤلاء الكبراء له ولدعوته وهو الرؤوف الرحيم الحريص الذى كاد يهلك نفسه حزنا عليهم فضلا أنهم وجهاء سيزيدون وزن الدعوة فى أنظار القبائل والعرب ..... جاءه في تلك اللحظة رجل لو نظر أحدنا اليه وهو لا يعلمه لقال لن يستطيع أن يخدم الدعوة بشئ ولكن هيهات .. كم فى الزوايا خبايا وكم فى الناس بقايا.
وسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو تبارك وتعالى ..
جاء الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضى الله عنه يقول له (علمنى مما علمك الله) !..آلآن؟؟ فى ظل ذلك الموقف.......... فلم يرده النبى صلى الله عليه وسلم ولم يعنفه ككلامنا نحن ولكنه فقط عبس بوجهه اقتضب صلى الله عليه وسلم وأزيدك بيانا ألا تنسى أن عبد الله بن أم مكتوم لم ير تلك العبوسة ولم تجرح مشاعره لأنه لم يراها .. ولكن .. الله رآها جل وعز .. فأنزل
] عبس وتولى*أن جاءه الأعمى*وما يدريك لعله يزكى*او يذكر فتنفعه الذكرى[
ميزان السماء مختلف تماما عن ميزان الأرض .. ميزان الجاهلية مختلف تماما عن ميزان الإسلام .. فالمرء لا بوزن بجاهه و ولا بصورته لا.بماله ولا بجسمه ولا بعشيرته انما يوزن بقلبه........
] إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم [
على قدر ما فى قلبك يكون لك عند الله حتى وإن لم يظهر منك شئ لعجزك عن العمل .. حتى وإن لم تظهرثمرة العمل فكفاك قلبك مؤنة ذلك .
] ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [
وإذا لم تصل فى الظاهر فقد وصلت في الحقيقة عند الله يبذل الجهد وصدق وإخلاص وتجرد القلب ..
نعم عباد الله .. رسالة إلى كل من يتولى تربية أومتابعة لا تحتقر قدرات فرد ولا تهمشها ولا تركن إلى موازين ظاهرة فى المال والحسب والنسب حتى ولو كان للفضلاء ..
ولا ........ حتى للباقة أو حسن صوت ولا نعنى ألا تستغل الطاقات المتوفرة بالعكس إنما نحن نريد إستغلال القليل فضلا عن الكثير التى تشخص الأبصار إليه ويخطف الإنتباه .. إنما ننبه إلى المدفون المغمور
] رب أشعت أعبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره [
يخدم دين ربه بقلبه وما تحسنه جوارحه أينما كان حسب ما جاءت به النصوص وحسب إستطاعته وهو فى تلك الإستطاعة التى تراها محدودة هو يسير ويقطع المسافات وقد قال صلى الله عليه وسلم ] سبق درهم مائة ألف درهم [
ألا تتساءلون لماذا ؟؟
لأن الأول له درهمان هذه طاقته فحين يبذل درهم يعنى ذلك أنه سيموت إن بذل الأخر جوعا ...!
أما الثاني فطاقته مئات مئات فأخرج مائة واحدة فالأمر نسبى وكل على قدر طاقته ..
عبد الله بن أم مكتوم خير من ملء الأرض من أبى جهل هذا هو ميزان الإسلام وميزان السماء
ونحن نطبق ذلك على واقعنا ونحن كلنا مسلمون .. ولكن تتفاوت درجات الإيمان وهذا التفاوت لا يعلمه إلا الله ولذلك حرم غمط الناس والسخرية منهم عسى أن يكونوا خيرا منا قد يوجد العالم العابد في الظاهر وهو يريد ان يقال عنه عالم وفي نفس الوقت يوجد طالب العلم الخامل .. المخلص وله معراج يعرج فيه قلبه إلى السماء .. وكما قلت هذا التفاوت لا يعلمه إلا الله لذلك علينا بإستيعاب طاقات الصالحين كلها ولا نبخل بجهدنا على إنسان .. أو مكان مهما لبس علينا الشيطان أن هذا الإنسان أو المكان لا رجاء فيه .. لا.. الرجاء فى الله كبير . عليك البذل وهداية البيان وعلى الله هداية التوفيق.
ونحن كما نحتاج للعالم نحتاج للمفكر وكما نحتاج للفقيه نحتاج للمحدث .. والأديب والداعية والمهندس والطبيب وغيره من ارباب المهن والصنائع والعلوم لبناء حضارة متكاملة الجوانب ذات طابع إسلامى أصيل .( هذا ما نسميه بإختلاف التنوع الواجب فيه التكامل والتعاون مع انضباط ضوابطه ] راجع فقه الخلاف د. ياسر برهامى[
ونحن هنا لا نقول أن النبى صلى الله عليه وسلم حقر عبد الله بن أم مكتوم. صلى الله عليه وسلم ولكنه اجتهد أن دعوة هؤلاء الآن أفضل من تعليم عبد الله بن أم مكتوم الذى وصلته الدعوة أصلا فاقتضب وعبس لذلك ( راجع عتاب الرسول لصلاح الخالدي)
فنحن نستد ل بالأدنى على الاعلى فإن كان عوتب صلى الله عليه وسلم على ذلك وهذا شئ طفيف ولكن فى حق المصطفى خليل الله ثقيل وعاتبه ربه فى ذلك ( راجع عقيدة الإيمان بالرسل فى شأن العصمة من منة الرحمن د . ياسر برهامي)
فما بالك بما يقع منا أحيانا من تحقير وتهميش وانتقاء مع ظلم كثير من حقول المواهب والطاقات وندفنها لأننا ندعى أننا لا نحتاجها .. بل نحتاج كما سبق البيان لإقامة خلافة على منهاج النبوة لسد كل الثغرات وتغطية كل فروض الكفايات ..
ومع ذلك نؤكد أن على كل مسلم حد أدنى فى العلم والعمل والدعوة لاينفك
عنه وجوبه حتى يصلح اعتقاده وعبادته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ثم بعد ذلك إذا تخصص فى شئ يخدم به دين الله فلا حرج عليه ولا غضاضة حتى وإن كانت غريبة على الطابع السلفى . لأن كل زمان يحتاج إلى تحديات مختلفة مثل الآن فى زماننا تخصصات نحتاجها ولم تكن موجودة قبل ذلك ] الكمبيوتر – الترجمة – هندسة الصوت-التنمية البشرية وغير ذلك [ المهم والخلاصة ألا نبخل بالدعوة ولا بالوقت على من يرجوه منا فما أدرانا لعله يزكى فيخدم دين أي خدمة ولا يخطر على البال كيفية تلك الخدمة .وفعلا أصبح عبد الله بن أم مكتوم أمير المدينة فى كل غزوة يخرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم وكان صلى الله عليه وسلم كلما رآه قال له (مرحبا بالذى عاتبنى فيه ربى ).. وقصة موته عظيمة جليلة أنه فى معركة القادسية قال لهم] إنى رجل أعمى لا أفز فحملونى .رايتكم.... واجعلونى بينكم [فحمل الراية وقتل دونها حتى تظل مرفوعة خفاقة ووجدوه مقتولا وهو مستمسك بها غاية الإستمساك إن شاء الله شهيدا فى سبيل الله
تبارك وتعالى وصدق الله إذ يقول من فوق سبع سماوات ] وما يدريك لعله يزكى [
فهل نعتبر ؟ والحمد لله رب العالمين
راجع
*منة الرحمن ← عصمة الرســــــــل
*عتـاب الرسول فى القرآن ← صلاح الخالدى
* فقه الخلاف ← د . ياسر برهامي
*مقدمة مقال تأملات فى مسألة الإختيار← د . ياسر برهانى