شـــلالات الــــروح
كتبه / أبو بكر القاضي
هنا تخرس الكلمات ويتُرك للقلوب العنان، هنا تستفيق القلوب من غفوتها وتستيقظ من غفلتها، هنا تباشر الحياة ومذاقها الرغد مع شلالات الروح ، قال تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءاً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } (17) سورة الرعد .
فهذه الآية الكريمة فيها من البصائر والأنوار ما نحاول عنه كشف الأستار ، فهذه الآية تحكي قصة الحياة طولاً وعرضا فالله أنزل من السماء ماءً طهوراً ليحيى به بلدة ميتاً ويسقى به أنعاماً وأناسى كثيراً هذا الماء به حياة الأبدان والأشباح ... وأنزل الله تبارك وتعالى من السماء - أيضاً وهى مصدر الخير والنور- الوحى الذى به حياة القلوب والأرواح .
تتدفق المياه من شلالات الماء الصافية النقية فى أودية كل وادٍ على حسبه فى السعة والضيق فوادٍ كبير يسع ماءً كثيراً ووادٍ صغير يسع ماءً قليلاً ...... وفى ظل ذلك الانجراف القوىّ للماء ترى بعض القاذورات تتدفق على سطح الماء فعلى قدر قوة السيل والشلال على قدر انجراف تلك الشوائب والزبد على حافتى النهر ولا يبقى فى الوادى إلا الماء والطمي الذى يجعل الله منه كل شيء حي ، هلا سمعتم وأنصتم ... أفلا تعقلون { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } (30) سورة الأنبياء ، وأنظر إلى الأفق الآخر......
شلالات الهدى والنور الثجاجة من القرآن والسنة تتدفق فى الأودية الربانية التى جعلها الله مستودع الأسرار ومحل نظر العزيز الغفار .... ألا وهى القلوب والأرواح فالقلب عالم كبير يسعُ الملكوت ملكوت السموات والأرض وهى آنية الله فى الأرض قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :
( إن لله آنية من أهل الأرض و آنية الله في الأرض قلوب عباده الصالحين فأقربها إليه أرقها و ألينها ) .
فقلب كبير يسع علماً كثيراً وقلب صغير يسع علماً قليلاً، وعلى قدر تلقى الوحى تتسع القلوب وتكبر وتصبح الأرواح عظيمة فتحوى ما يحبه الله من صدق وإخلاص وتجرد وحب وخوف ورجاءاً وأنساً به وتوكلاً عليه تبارك وتعالى وعقلاً وفهماً عن الله مراده وكلام رسوله
ومقاصدشرعه... أرواح عظيمة تحمل أصحابها على البذل والإيثار والدعوة إلى الواحد القهار تبارك وتعالى.... أرواح عظيمة تحث على النصح والرحمة بالخلق ألم تر إلى نبى الرحمة
وربه يعاتبه على رحمته على الكفار التي كادت تقتله (صلى الله عليه وسلم) { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (6) سورة الكهف .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):( انما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه ) رواه مسلم .
ألا تسمع لذلك الصوت الآتي من الآخرة تشم منه عبق الجنة الطاهر { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ،بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } سورة يــس.
ناصح لقومه في حياته وبعد مماته...
ألم تسمع إلى حكاية الله عن وجدان المؤمن الصادق المحب لربه ودعوته { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } (30) سورة يــس.
حسرات فى القلوب السليمة على هؤلاء الذين خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها حب الله والتنعم بذكره تبارك وتعالى..... قلوب وأرواح تتدفق فيها شلالات النور أمواج متلألأة تغسل أرض القلوب من الشبهات والشهوات وتجرف على قدر قوتها الزبد من التصورات الباطلة والإرادات الفاسدة حتى تطيب أرض القلوب وتنبت من كل زوج بهيج ، وفى صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فأصاب منها طائفة نقية قبل الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير).
فعلى قدر قوة الشلال الطاهر من الهدى والعلم وخصوبة أرض القلب لتلقى ذلك يكون العمران عمران القلوب ثم عمران الكون كله...
ثم يضرب الله مثلا آخر
{ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله}
وهذا أفق آخر وبُعد آخر فيه نرى المواجيد الربانية فى القلوب من شوق وحب وصبر وتوبة مع ابتلاءات ، كلمات من الله كالنار مع المعادن النفيسة تنقى عنها الخبث والكير فتخرج لامعة وهكذا القلوب تتلألأ كالكوكب الدرى كما ضرب الله لها مثلاً فى القرآن { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (35) سورة النــور
فعلى قدر اللإبتلاء يكون الاصطفاء وعلى قدر التعرض لنفحات الله تكون الرحمات والبركات لتصيغ القلوب الكبيرة والأرواح العظيمة .
وهنالك يبتان الحق من الباطل ويزهق ذلك الباطل من الأرض كلها بعد وصوله فى تلك القلوب الزجاجية النقية الشفافة { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد.
لكى نفهم عنه لكى نعرفه لكى نعلم ولا يعقلها إلا العالمون ، هذا الزبد من الشهوات والشبهات وتجليات الباطل ومظاهره فى النفس والمجتمع من رؤى نظرية وعمليات حركية لصد البشر عن طريق النور وكفهم عن رؤية البراهين الشافية والآيات النورانية الباقية كل ذلك إلى الجُفاء إلى مزبلة التاريخ....
وأما الذى يبقى ويتصل بمعنى الخلود والبقاء فهو ما اتصل بالباقى الوارث تبارك وتعالى من معنى جميل امتثل فى القلب والروح وكلمة صدق خرجت من اللسان وحركة جارحة لم تتحرك على الأرض وحسب بل شقت طريقها إلى السماء بعملها لوجه الله والدار الآخرة.
وهذا خلاصة ما قاله الإمام مالك فى مقولته التى كتبت بماء الدموع :
( ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصـــل )
أخى يا من ترجو أن تكون من أصحاب القلوب الكبيرة والأرواح العظيمة اسبح مع شلالات الروح واجعلها تغمرك بجمالها وأحضانها الدافئة مع استسلام وإخلاص وتيقن أنك ستهدى لسبيل الله وستخرج من الظلمات إلى النور...
جاهد نفسك وهواك وتعلم واعمل واصْبر على مواجيد الشوق والحب فإن المرء يبدأ الطريق حاملاً نفسه عليه وينتهى به الأمر محمولاً إلى الله برعايته وتوفيقه.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت
0 التعليقات:
إرسال تعليق